کد مطلب:370275 سه شنبه 23 مرداد 1397 آمار بازدید:958

الفصل الرابع شجاعة الخوارج












الصفحة 148












الصفحة 149


شجاعة «الخوارج»، وسر بعض انتصاراتهم:


لقد عرف «الخوارج» بالشجاعة والإقدام، وبالصراحة فی أقوالهم واعمالهم(1) ـ كما زعموا ـ وكان الموالی ـ كما تقدم ـ أشجع «الخوارج» وأشدهم جسارة.


كما أن الملاحظ هو: أن خوارج الكوفة أقوى شكیمة، وأشد مراساً من خوارج البصرة(2).


وقد ذكر الجاحظ للخوارج امتیازات فی حروبهم، وهی التالیة:


1ـ صدق الشدة عند أول وهلة.


2ـ إنهم یصبرون على طول السرى، بحیث لا یظن أن أحداً یقطع تلك المسافة فی ذلك المقدار من الزمان؛ فیفاجئون عدوهم، وهم غارون، فیوقعون بهم.


3ـ إن ضرب المثل بهم واستشهادهم بالقتل یرعب غیرهم.


____________



(1) ضحى الإسلام ج3 ص332 وراجع فجر الإسلام ص263/264.


(2) راجع: الخوارج فی العصر الأموی ص124 عن الخربوطلی فی كتابه: تاریخ العراق ص92.













الصفحة 150


4 ـ إنهم لا سلب لهم، لیرغب الجند فی لقائهم، أو یثقل حركتهم فی التنقل، كما هو الحال فی جند غیرهم.


ولكن «الخوارج» إذا ولّوا فقد ولّوا، ولیس لهم بعد الفر كرّ، إلا ما لا یعدّ. و«الخوارج» والأعراب ـ والخوارج منهم ـ لیست لهم رمایة على ظهور الخیل(1).


5 ـ ویعرف عنهم قوتهم على كثرة الركض(2).


وزعموا أنهم یسیرون فی لیلة ثلاثین فرسخاً وأكثر(3).


نعم.. إن ذلك هو بعض ما اعتبروه اسباباً فیما سجلوه من انتصارات على بعض الجیوش التی كانت تتصدى لحربهم.


«الخوارج» لیسوا شجعاناً:


ولكننا بدورنا نشك فیما یذكرونه من شجاعتهم، فإنهم كانوا طامعین بالدنیا، محبین للحیاة، حتى إن فارسهم قطری بن الفجاءة قد اعترف فی شعر له بما اصابه من خوف شدید من خصمه المهلب بن أبی صفرة(4).


ویعترف عمرو بن الحصین بخذلانه لأصحابه، فیقول:


 









كم من أولی مقةٍ صحبتهم شروا فخذلتهم ولبئس فعل الصاحب(5)



وقال آخر منهم كان قد خذل أصحابه:


____________



(1) رسائل الجاحظ ج1 ص41 ـ 46.


(2) المحاسن والمساوئ ج2 ص391.


(3) المحاسن والمساوئ ج1 ص217 وفی هامشه عن المحاسن والأضداد ص129/130.


(4) راجع: الخوارج فی العصر الأموی ص286.


(5) الخوارج فی العصر الأموی ص281.













الصفحة 151


 









إخوان صدق أرجیهم وأخذلهم أشكوا إلى الله خذلانی لأصحابی(1)



وقال زید بن جندب فی الاختلاف الذی وقع بین الأزارقة:


 





















قل للمحلین قد قرت عیونكم بفرقة القوم والبغضاء والهرب
كنا أناساً على دین ففرقنا طول الجدال وخلط الجد باللعب
ما كان أغنى رجالاً ضل سعیهم عن الجدال وأغناهم عن الخطب
إنی لأهونكم فی الأرض مضطرباً ما لی سوى فرسی والرمح من نشب(2)



وحین حبسهم زیاد بن أبیه، قبلوا بأن یقتل بعضهم بعضاً، مقابل أن یخرجهم زیاد من السجن، وهكذا كان، ثم ندموا، وأخذوا یبكون على ما فعلوه بإخوانهم. ثم عرضوا الدیة والقود على أولیاء المقتولین، فرفضوا(3).


هذا كله.. عدا عن طلبهم الأمان من أعدائهم. واسترحامهم(4).


بل إن التحكم فی صفین قد كان سببه أن الحرب طالت علیهم، واشتد البأس، وكثرت الجراح، وحلا الكراع(5).


____________



(1) المصدر السابق.


(2) البیان والتبیین ج1 ص42 وشرح النهج للمعتزلی ج4 ص205 والكامل فی الأدب ج3 ص394 ونسب الأبیات فیه إلى الصلت بن مرة.


(3) الكامل فی التاریخ ج3 ص516/517 والعبر ودیوان المبتدأ والخبر ج3 ص144 وراجع: العقود الفضیة ص108/109 لكنه زعم أن زیاداً قد سجن الأحرار والموالی، ثم فتن بینهم فقتل الأحرار الموالی.


(3) مع وجود الفتنة لابد من حصول القتل فی الطرفین لا فی جانب واحد.


(4) راجع: الخوارج فی العصر العباسی ص22 و123 و285 ونقل أیضاً الكامل فی التاریخ، ج3 ص417 و418.


(5) راجع: بهج الصباغة ج7 ص161 عن ابن دیزیل فی صفین، وتقدمت مصادر أخرى لذلك فی بعض













الصفحة 152


وحین نادى الحجاج فی أصحاب شبیب: «من جاء منكم فهو آمن..» كان كل من لیست له بصیرة فی دین «الخوارج» ممن هزّه القتال وكرهه ذلك الیوم یجیء فیؤمّن.


وقبل ذلك كان الحجاج نادى یوم هزم شبیب: «من جاءنا فهو آمن. فتفرق عن شبیب ناس كثیر من أصحابه»(1).


شهرة فرار «الخوارج» فی الحروب:


وفی بعض المواقع طلب عمرو القنا من أصحابه أن لا یترجلوا، ولا یعقروا دوابهم فقالوا له: «إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار»(2).


وفرارهم فی المواقف الصعبة مشهور عنهم(3).


وقد قیل فیهم: إنهم إذا ولّوا فقد ولّوا، ولیس لهم بعد الفرّ كرّ إلا ما لا یعد(4).


مع أن الفرار عندهم یوجب الكفر.


وقد قال البهلول الشیبانی یحمس المتخاذلین الخائفین من الموت منهم بقوله:


 









فلا التقدم فی الهیجاء یعجلنی ولا الحذار ینجینی من الأجل



____________



(1) شرح النهج للمعتزلی ج4 ص272 وتاریخ الأمم والملوك ج6 ص277 ط دار المعارف بمصر.


(2) الكامل فی الأدب ج3 ص402.


(3) راجع: الكامل فی الأدب، ج3 ص185 و337 و364 و365 و343 و348 و325 و396 و402 و330 و331 و335 والعقود الفضیة ص220 والأغانی ط ساسی ج20 ص109و113 والبرصان والعرجان ص176 والعقد الفرید ج1 ص220و221 وشرح النهج للمعتزلی ج5 ص101و121 وج4 ص271و166 والخوارج والشیعة ص96 و101.


(4) الحیوان للجاحظ، ص41 ـ 46.













الصفحة 153


وكان أصحاب قطری بن الفجاءة یخشون أن یلبسهم العار من كثرة هروبه من وجه المهلب، حتى خاطبه أحدهم بقوله:


 

















أیا قطری الخیر إن كنت هارباً ستلبسها عاراً وأنت مهاجر
إذا قیل: قد جاء المهلب أسلمت له شفتاك الفم والقلب طائر
فحتى متى هذا الفرار مخافة وأنت وولی الهلب كافر(1)



وقد تقدمت أبیات زید بن جندب وفیها:


 









قل للمحلین: قد قرت عیونكم بفرقة القوم والبغضاء والهرب



وتقدم بعض شعر عمرو بن الحصین وغیره فی ذلك.


العدة والعدد لدى «الخوارج»:


ونحن لا ننكر ظهور بعض نفحات الشجاعة فیهم، وأنهم قد حققوا أحیاناً بعض الانتصارات، بسبب إقدامهم، ونكول خصومهم عنهم. وهی أمور طبیعیة، ولها أسبابها الموضوعیة والمعقولة، خصوصاً فی حالات تبییت العدو، مع عدم وجود دوافع قویة لدى الناس لحربهم لأكثر من سبب كما سنرى.


نعم.. إننا لا ننكر ذلك، غیر أننا نقول إن «الخوارج» كانوا یخفقون فی تحقیق النصر حتى وهم یملكون مقوماته من العدة والعدد، فقد أظهر تاریخهم: أنهم كانوا یحصلون على الأموال اللازمة من جبایاتهم للبلاد التی كانوا یسیطرون علیها(2).


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص275.


(2) راجع: الكامل للمبرد ـ الجزء الثالث ص239 وغیرها.













الصفحة 154


وتقدم: أن الجاحظ یذكر: أن قطری بن فجاءة كان یشتری السیف بعشرین ألف درهم.


ومما یشیر إلى: حسن استعدادهم، وتوفر مقومات العمل العسكری الذی من شأنه أن یحقق لهم انتصارات قویة، قول المؤرخین عن حرب المهلب وقطری بن الفجاءة: «فخرج إلیهم المهلب، فلما أحسّ به قطری یمم نحو كرمان. فأقام المهلب بالأهواز. ثم كرّ قطری علیه، وقد استعد؛ فكان «الخوارج» فی جمیع حالاتهم أحسن عدة ممن یقاتلهم، بكثرة السلاح، وكثرة الدواب، وحصانة الجُنَنِ، فحاربهم المهلب، فنفاهم إلى رام هرمز»(1).


فترى: أنهم رغم كونهم أحسن عدة؛ فإنهم لم یتمكنوا من تحقیق النصر، بل كانت الهزیمة من نصیبهم.


وفی مورد آخر: شخص إلیهم عمر بن عبید الله إلى أرجان، وكان علیهم الزبیر بن علی السلیطی، فقاتلهم، وألح علیهم حتى أخرجهم عنها، فألحقهم بأصبهان، فجمعوا له، وأعدوا واستعدوا ثم أتوا سابور، فسار إلیهم عمر بن عبید الله، فقاتلهم، وهزمهم أیضاً(2)، ثم لقیهم مرة أخرى فهزمهم كذلك.


وهذا ما یجعلنا نبحث عن أسباب تلك النفحات فی غیر هذا الاتجاه، فما هی یا ترى:


____________



(1) الكامل فی الأدب ج3 ص347و348.


(2) راجع: الكامل فی الأدب ج3 ص335 ـ 337.













الصفحة 155


اسباب بعض نفحات الشجاعة فیهم:


ونستطیع أن نذكر من أسباب ذلك:


1ـ أنهم كانوا یخوضون حروبهم غالباً على قاعدة اضرب واهرب. فكانوا یباغتون عدوهم ـ خصوصاً باللیل، وهو ما یسمونه بالبیات، فیضربون ضربتهم، ثم ینحسرون عن ساحة القتال، بل عن المنطقة كلها بسرعة، فائقة قبل أن یتمكن عدوهم من التقاط أنفاسه، وإعادة تنظیم صفوفه، هذا بالإضافة إلى ما كانوا یقومون به من عملیات اغتیال مؤثرة(1) تثیر الفزع والخوف لدى عامة الناس.


بل لقد أطلقوا على المهلب لقب الساحر(2)، حین رأوا أنه قد أفشل بحذره وتدبیره خططهم، ولم یقع فی مأزق البیات، وجعلهم غیر قادرین على تحقیق نصر یذكر، إذن فلم یكن لهم انتصارات كبیرة، یمكن نسبتها إلى تأثیر عنصر الشجاعة فیهم. بل كانوا یمنون بالهزائم المتتالیة، كما تقدمت الإشارة إلیه فی الأشعار التی یخاطب فیها ذلك الرجل قطری بن فجاءة. وكما تدل علیه الوقائع التاریخیة، التی تظهر هزائمهم المتتالیة فی مقابل المهلب، وفی مقابل عمر بن عبید الله، وغیر ذلك.


2 ـ قد كانت هناك اتهامات متبادلة، فیما بین أجهزة السلطة التی تحارب «الخوارج» تتمحور حول أمر واحد، وهو أن یكون ثمة تعمد لمطاولتهم فی الحرب من قبل قادة الحرب باعتبار أن قتالهم اصبح سبباً للشهرة، وللحصول على المال.


____________



(1) راجع: كتاب الحیوان للجاحظ ج1 ص41 فما بعدها.


(2) الكامل للمبرد ج3 ص351 وفیه: لأنهم كانوا یدبرون الأمر، فیجدونه قد سبق إلى نقض تدبیرهم ـ وراجع ص341.













الصفحة 156


وقد قال عبد بن صبح للمهلب حین وجه ولده المغیرة إلى قتالهم فارس: «أیها الأمیر، إنه لیس برأی قتل هذه الأكلب، والله، لإن قتلتهم لتقعدن فی بیتك، ولكن طاولهم، وكُلْ بهم...»(1).


وكان الحجاج یتهم المهلب بن أبی صفرة بذلك، فقد كتب إلیه یقول له:


«إنك لتحب بقاءهم لتأكل بهم»(2).


وكتب إلیه أیضاً: «ولكنك اتخذت أكلاً، وكان بقاؤهم أیسر علیك من قتالهم»(3).


ویمكن تأیید هذه الحقیقة بما یظهره التاریخ من حسد، ومن منافسات(4) على مقام تولی قتالهم، لیفوز بالمقام وبالسمعة، وبالموقع، وما إلى ذلك.. فراجع.


3ـ قد كانت هناك جماعات یتم إجبارها على قتال «الخوارج»، دون أن یكون لدیها قناعة فی حرب كهذه، لأن «الخوارج» كانوا یرفعون شعار الاعتراض على الحكام فی ظلمهم للناس، وجورهم، ومخالفاتهم لأحكام الدین، ویتظاهر «الخوارج» بالعبادة والزهد، والعزوف عن الدنیا، ویركزون على هذه النواحی فی أشعارهم وخطبهم، ومجادلاتهم، فكان لذلك تأثیره فی بعض الناس، من حیث إنه یقلل من حدة الاندفاع إلى قتالهم، بل هو یثیر فی الكثیرین میلاً إلى مسالمتهم، بل والإنضواء تحت لوائهم،


____________



(1) الكامل فی الأدب ج3 ص365.


(2) الكامل فی الأدب ج3 ص373.


(3) الكامل فی الادب ج3 ص377.


(4) راجع: الكامل فی الأدب ج3 ص353و358و359 وراجع أیضاً، ص 362 و363 و364 ففیها نصوص تدل على ذلك.













الصفحة 157


لحرب الأمویین، ومن شواهد ذلك أن أحد زعماء «الخوارج» وهو عبد الله بن یحیى: «رأى فی الیمن جوراً ظاهراً، وعسفاً شدیداً وسیرة فی الناس قبیحة.. فجمع أصحابه وبادر إلى محاربة الحاكمین»(1).


4ـ إن الناس لا یرون فی الأمویین وفی غیرهم من الحكام باستثناء علی (علیه السلام) وأهل بیته من وما یستحق التضحیة معه بالنفس، ولا یجدون ریح الشهادة فی حربهم للخوارج، والتعرض لسیوفهم. فلا توجد دوافع قویة ولا حتى ضعیفة لدى الكثیرین فی هذا الاتجاه.


5ـ قد عرف عن «الخوارج» عدم مبالاتهم بما یرتكبونه من جرائم، وإنه لیس لدیهم ما یحدّ من اندفاعهم فی هذا الاتجاه، بل تجدهم قد حاولوا تشریع ذلك، وتأصیل أصول عقیدیة من شأنها أن تحتم علیهم التعاطی بهذا المستوى من العنف، وتسهّل علیهم سفك الدماء، دون أن یكون لدیهم أیة روادع إیمانیة أو إنسانیة، أو وجدانیة وضمیریة، بل هم یرون أن تنكیلهم بخصومهم حتى بالنساء والأطفال عبادة یثابون علیها، وتدخلهم الجنة بزعمهم.


وعلى كل حال: فإن نظرة فاحصة لمنطلقاتهم الفكریة تعطی أنهم لا یملكون أیة ثوابت تحدد لهم اتجاه مسیرة تعاملهم مع الآخرین. بل هی مجرد لمعات تطلقها مشاعر من الهوى والعصبیة، تنضح بالجهل، وتتسم بالارتجال، وتفیض بالجفاء والغلظة، وتتسربل بالبداوة والأعرابیة، فیرتكبون جرائمهم، باندفاع، ویتظاهرون بالرضا، وبالاقتناع بذلك.


وأما الذین یحاربون «الخوارج» فهم فی غالبیتهم من عامة الناس


____________



(1) الأغانی ط ساسی ج20 ص97 وج6 ص149 وشرح نهج البلاغة للمعتزلی ج5 ص106.













الصفحة 158


العادیین الذین یریدون التصدی لحربهم، فتحكم حركتهم المبادئ، وقیم أخلاقیة، وإنسانیة، وتكلیف شرعی، وقیود وحدود.


وعلى الأقل لم تصبح الجریمة هی القیمة لدیهم، وهی الفرض الشرعی علیهم، وإن كان حكامهم الذین یسوقونهم لهذه الحرب عتاةً وطغاةً وجبارین، لا یرجعون إلى دین، ولا ینطلقون من ضمیر أو وجدان.


ومن الطبیعی أن تكون حركة هذا النوع من الناس محدودة.


وهم حتى لو طلب منهم حكامهم ممارسة هذا النوع من الجریمة، فسیجدون فی أنفسهم الكثیر من الحرج والتردد فی امتثال الأوامر التی یصدرونها إلیهم.


وحین تدور رحى حرب بین فریقین، لهما هذه النظرة المختلفة، فإن الفریق الأول سیكون جارحاً ومؤثراً فی الفریق الثانی نفسیاً وروحیاً، حتى على صعید الانطلاق فی حركة المواجهة على أرض الواقع.


وقد أشار المهلب إلى هذا الأمر حین خطب أصحابه محرضاً لهم على قتال عدوهم، فقال: «قد عرفتم مذهب هؤلاء «الخوارج»، إنهم وإن قدروا علیكم فتنوكم دینكم وسفكوا دماءكم»(1).


ویتعمق الشعور بالعقدة لدى هذا الفریق الثانی، حین یفرض علیه أن یحارب إخوانه، وابناء عشیرته، وقومه، ولن یجد فی نفسه ذلك الاندفاع القوی نحو ذلك.


أما الفریق الآخر، فهو قد تجاوز موضوع النسب والعشیرة، حین انساق وراء تصورات اعتبرها عقیدة لنفسه،


____________



(1) الكامل فی الأدب ج3 ص315.













الصفحة 159


فرضت علیه الحكم بكفر الطرف الآخر، ولزوم التخلص منه.


ومما یشیر إلى وجود العقدة العشائریة: ما ذكره المبرد من أن «الخوارج» قاتلوا خصومهم یوماً إلى اللیل، دون كلل أو ملل، ثم قالوا: من أنتم؟!


قالوا: تمیم.


قالت «الخوارج»: ونحن بنو تمیم.


فلما امسوا افترقوا.


وفی الیوم التالی تقاتل فریقان حتى اعتموا، فقالت «الخوارج»: ارجعوا.


فقالوا: بل ارجعوا أنتم.


فقالوا: ویلكم من أنتم؟


فقالوا: تمیم.


قالوا: ونحن تمیم(1).


6ـ إن «الخوارج» كانوا ـ فی الأكثر ـ من القبائل العراقیة، التی تعتبر رابطة الدم هی الأقوى. وكان الحجاج، وغیره من الحكام یمارسون ضغوطاً على الناس لیدفعوهم إلى حرب إخوانهم..


یضاف إلى ذلك: عوامل أخرى كانت تفرض علیهم هذه الحرب، مثل دفع شرهم. أو لأجل الحفاظ على تجارتهم، وزراعتهم. أو تزلفاً وطمعاً. وقلیلون جداً أولئك الذین كانوا یحاربونهم تدیناً، أو إیماناً


____________



(1) راجع: الكامل للمبرد، ج3 ص375 و376.



 












الصفحة 160


بلزوم تثبیت العرش الأموی.


ومما یشهد لما ذكرناه: النصوص الدالة على أن قتال أهل البصرة لهم، ومساعدة التجار للمهلب بالأموال قد كان بهدف الحفاظ على تجارتهم، بسبب انقطاع مواد الأهواز وفارس، فراجع(1).


وقد كان اندفاعهم أحیاناً لحرب «الخوارج»، بسبب الخوف منهم كما هو الحال فی عهد یزید، وابن الزبیر(2).


وشاهد آخر: وهو أننا نجد أمیر المؤمنین (علیه السلام)، یقول لهم: «أفتذهبون إلى معاویة، وأهل الشام، وتتركون هؤلاء یخلفونكم فی دیاركم وأموالكم؟!»(3).


وإن كنا نجد نصاً آخر یفید: أنه (علیه السلام) یرى قتال معاویة أهم فقد جاء عنه (علیه السلام) أنه قال: «بلغنی قولكم: لو أن أمیر المؤمنین سار بنا إلى هذه الخارجة التی خرجت علینا؛ فبدأنا بهم، إلا أن غیر هذه الخارجة أهم على أمیر المؤمنین،سیروا إلى قوم یقاتلونكم كیما یكونوا فی الأرض جبارین ملوكاً، ویتخذهم المؤمنون أرباباً، ویتخذون عباد الله خولاً، ودعوا ذكر «الخوارج»، قال: فنادى الناس الخ...»(4).


____________



(1) راجع على سبیل المثال: الكامل للمبرد ج3 ص312و313 وشرح نهج البلاغة للمعتزلی ج4 ص146و181.


(2) الأخبار الطوال ص270و271.


(3) المصنف ج3 ص148، والسنن الكبرى للبیهقی ج8 ص170 عن صحیح مسلم، وتیسیر المطالب فی آمالی الإمام أبی طالب ص35، وكنز العمال ج11 ص280 ورمز إلیه بـ [عب، ما، وخشیش، وأبو عوانة، وابن أبی عاصم، ق].


(4) الإمامة والسیاسة ج1 ص145.













الصفحة 161


ونقول:


لعل هذا القول منه (علیه السلام) قد كان بعد قتل «الخوارج» فی النهروان، ولم یعد للخوارج أی شأن، وصاروا یخرجون على شكل شراذم ضعیفة، وغیر قادرة على تحقیق نصر یذكر، وبإمكانهم دفعها بأعداد یسیرة.. فكان الناس یتخذون ذلك ذریعة للتهرب من التوجه لما هو أهم، وخطره أعظم. ولكنهم حینما نجم قرن الشیطان، وظهر «الخوارج»، وصاروا یفسدون فی الأرض.. حاول أهل الكوفة أن یحسموا أمرهم، ویدفعوا غائلتهم، فكان أهل الكوفة یصرون على أمیر المؤمنین (علیه السلام) بالبدأة بـ«الخوارج»؛ لأنهم لا یستطیعون أن یسیروا إلى حرب معاویة، ویبقى هؤلاء بین أظهرهم.


یقول النص التاریخی: «فقام إلیه الناس، فقالوا: یا أمیر المؤمنین، علام تدع هؤلاء وراءنا یخلفوننا فی أموالنا وعیالنا، سر بنا إلى القوم، فإذا فرغنا مما بیننا وبینهم سرنا إلى عدونا من أهل الشرك الخ..»(1).


وعند الدنیوری: «أتدع هؤلاء على ضلالتهم، وتسیر؛ فیفسدوا فی الأرض، ویعترضوا الناس بالسیف؟! سر إلیهم بالناس، فإن تابوا وقبلوا، فإن الله یحب التوابین، وإن أبوا فأذنهم بالحرب، فإذا أرحت الأمة منهم سرت إلى الشام»(2).


____________



(1) تاریخ الطبری ج4 ص61، وأنساب الأشراف بتحقیق المحمودی ج2 ص368، وراجع: تاریخ ابن خلدون ج2 ـ قسم2 ص180، والبدایة والنهایة ج7 ص288، والفخری فی الآداب السلطانیة ص94، والكامل لابن الأثبر ج3 ص342 وراجع ص340، والفصول المهمة لابن الصباغ ص91و90، والإمامة والسیاسة ج1 ص147.


(2) الأخبار الطوال ص207.













الصفحة 162


فإن هذا الكلام قد كان فی بدایة ظهور «الخوارج»، وقتلهم بن خباب، وإفسادهم فی الأرض، كما قلنا.


الشجاعة والیأس:


وقد أشار أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلى أن سرّ إقدام ابن وهب الراسبی على طلب مبارزته مع علمه أن من یبارز أمیر المؤمنین لن یكون مصیره سوى البوار والفناء هو أحد الأمرین:


1ـ یأس من الحیاة حین لابد من مواجهة الموت فی ساحات القتال.


2ـ أو أنه كان یطمع طمعاً كاذباً، حیث منّته نفسه أمراً یستحیل علیه تحقیقه، وهو أن ینتصر على أمیر المؤمنین (علیه السلام).


فإنه (علیه السلام) حینما طلب منه الراسبی البراز: تبسّم ثم قال: «قاتله الله من رجل ما أقل حیاءه! أما أنه لیعلم: أنی حلیف السیف، وحدیل الرمح، ولكنه أیس من الحیاة، أو لعله یطمع طمعاً كاذباً»(1).


وربما یكون هذا أیضاً: هو حال الخارجین على حكومات الجبابرة، فإما هم یطمعون بالنصر.. أو أنهم لابد لهم من مواجهة الموت، لأن أولئك الحكام لن یتركوهم وشأنهم، بل لابد أن یقتلوهم، إما فی معركة أو بدونها.


وقد قال المهلب بن أبی صفرة لأصحابه وهو یحذرهم من «الخوارج»: «.. فإن القوم خائفون وجلون، والضرورة تفتح باب الحیلة»(2).


____________



(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص132، وشرح النهج للمعتزلی.، وكشف الغمة ج1 ص267.


(2) الكامل فی الأدب ج3 ص315.













الصفحة 163